قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن

الخاطرة ٢٢

عن الإيجابية المفرطة والعنف العصبي الذاتي

ذكرت في الخاطرة السابقة الفردية المفرطة التي تعتبر أهم أعراض زمن الذهان الذي نعيشه. فما معنى ألا يأبه المرء إلا لنفسه، وأن يجد حلول مشاكله بفرده في معزل عن مجتمعه أو أسرته أو شريك حياته؟ كيف آل بنا المآل كمجتمع إلى هذا الحال؟

وجدت تفسيرا ملفتا في كتاب للفيلسوف الألماني الكوري الأصل، بيونغ شول هان، والذي يتحدث فيه عن زمن الإيجابية. في السابق كان مجتمع الأنا والآخر يحكمه الامتناع أو الصد. وهذا المنع الذي يتعرض له الإنسان يولد عنده ردا مناعيا. فنحن نعرف أنفسنا بما ليس فينا وما لا يشبهنا، بالتضاد مع الآخر. الخطر الخارجي يولد ردا نسميه ردا مناعيا. غير أنه في عالم العولمة والتشابه، تستحيل الإيجابية خطرا آخر بل ربما خطرا أكبر لأنها لا تولد ردا مناعيا. فلا يبدو هناك في ظاهر الأمر شيئا يعترض عليه المرء. “الشيء المشابه أو المماثل لا يؤدي إلى تشكل أجسام مضادة” وبالتالي ينخفض الرد المناعي.

يشرح هانس أثر هذا النظام على النفس بكونه عنفا عصبيا. ففي زمن الفردية الفكرية تولدت أيضا فكرة الإيجابية المفرطة واعتقاد المرء أنه قادر على كل شيء. والإيجابية المفرطة مغرية وتسبب الإرهاق والاكتئاب، وربما بتعبير طبي فهي تسبب هجوما على الذات وتوعكا مناعيا لأن العلة في تشكلها ليست ناجمة عن رد فعل تجاه الآخر وإنما إسراف في حق النفس كالسعي الدائب للإنجاز المفرط أو الإنتاجية المفرطة.

حيث كتب بيونغ شول هان،

“إضفاء صبغة الإيجابية على العالم أدى إلى ظهور نوع جديد من العنف. وهذا العنف غير نابع من الرد المناعي ضد الآخر بل وليد الجهاز المناعي نفسه. ولأن مصدره الجهاز المناعي نفسه فلا يستوجب ردا منه. هذا العنف العصبي يؤدي إلى انتهاك نفسي يولد إرهابا ذاتيا يختلف كليا عن الذعر الناجم عن الغريب بالمعنى المناعي… عنف الإيجابية لا يشعر بالحرمان بل بالتشبع. إنه لا ينفي بل يعيي. لذلك يغفل عنه الإدراك التلقائي.

العنف الفيروسي غير مسؤول عن الأمراض العصبية كالاكتئاب أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أو متلازمة الإرهاق، لأنه يتبع المخطط المناعي:الداخل والخارج، النفس والآخر، ويفترض وجود التفرد أو الغيرية وهي معادية للنظام. أما العنف العصبي فلا ينشأ من السلبية الناتجة عن الاختلاف عن النظام. بل هو منهجي، أي عنف ذاتي وليد النظام نفسه. الاكتئاب وفرط الحركة ونقص الانتباه ومتلازمة الإرهاق تدل على فرط في الإيجابية.” (هان، ٢.١٥)

والغاية من ذكر هذه الأفكار هو أن الآيات التالية تذكر مجموعة من الوصفات الطبية (prescriptions) وكأن ما كتب علينا هو في الحقيقة علاج أو علاج وقائي ضد الإصابة بهذه الأمراض النفسية المناعية.

لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ (177) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ (178) وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ (180) فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ (181) فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (182) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (184) شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ (186)

كل شيء كتب علينا يولد ردا مناعيا في النفس ويدعونا للتفكر والتأمل، ويبني الشخصية السوية ويزيد من تقوى الله وتفكيرنا في الآخرين.

تعبر الآيات عن اهتمام مستمر بوضع أسس المؤسسة الاجتماعية الصحية وحمايتها. والمقاصد العليا لهذه الآيات هي حماية الفرد والمجتمع.

كما أن هذه النظريات لفتت انتباهي إلى مساويء الإيجابية في الاعتقاد، بألا يأخذ المرء إلا بصفات الجمال لله دون صفات الجلال مما يؤدي إلى الإسراف والاعتداء على حدود الله.

فيصبح التفكر في أسماء الله الحسنى بصفات الجلال والجمال وفهم الهدف من التضاد على أنه معني بخلق توازن نفسي وتقوية المناعة النفسية للمرء منظورا هاما لفهم أسس توازن النفس.

English version

Leave a comment