الخاطرة (٣ و ٤)

تحدثت في الخاطرتين السابقتين عن ترابط سورتي الفاتحة والبقرة من حيث الطلب وجواب الطلب وما ينطوي على ذلك من تعاقد بين طرفين، الخالق والمخلوق، المريض والطبيب المداوي. وكيف أن سورة البقرة تأتي مفصلة لبنود هذا العقد. فكانت أولى شروط تلقي الهداية وتلقي العلاج الالتزام بتقوى الله. ووضحت بعض نظريات التحليل النفسي المرتبطة بهذه المعاني، بما أن الصحة النفسية من منظور علم التحليل النفسي هي أداة هذا البحث.
نجد أن الله عز وجل يخبرنا على الفور بماهية المتقين لله:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 الم
2 ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
3 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
4 وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
5 أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون
وهنا نبدأ بمواجهة تحديات التقوى أو نوع اليقظة المطلوبة منا. فالغيب معناه ما يغيب عن الحواس الخمسة. وهنا عظمة الدقة اللغوية للغة العربية فكلمة mindfulness تشير إلى يقظة ذهنية
أما التقوى فهي يقظة قلبية لأن العقل دون البعد الروحي الذي مناطه القلب لا يستقيم وقد يضل ولا يهدي كما سأبين لاحقا.
ونجد أن هذه التقوى أساسها ثلاثة علاقات محورية:
⁃ علاقة غيبية أساسها الاستسلام والعبودية (وهي الجرعة الواقية من النرجسية)
⁃ علاقة عمودية مع الله من خلال الصلاة وأركان الإسلام، ترسخ إيماننا بالغيب وتحدد نوع التعاقد مع الله (جرعة وقائية ضد جنون العظمة أو توهم المرء بقدرته المطلقة omnipotence)
⁃ علاقة أفقية تنظم تعاملاتنا البشرية أساسها حب الخير للآخرين (جرعة وقائية ضد الاكتئاب والعزلة)
لذا نجد أن بدايه الهداية تعنى بلفت انتباهنا إلى جهازنا المناعي النفسي ومنحنا التطعيم الذي يغذيه لسعينا على مواجهة التركيبات النفسية التي قد تهدد هذه العلاقات المحورية في حياتنا فنحيد عن الصراط المستقيم.
لذا فإن أركان الإسلام الخمسة هي أسس هذه الصحة النفسية وطريقة تدعيم جهازنا المناعي النفسي. فأداؤها يعود علينا بالنفع والصحة.
فما هو هذا الجهاز المناعي؟
إذا تمعنا في الآيات الخمسة التي تحدد صفات المتقين نجد أن صفات التقوى تتحقق بالايمان بالله (شهادة ألا إله إلا الله) والغيب والصلاة والإنفاق وهي صفات تعززها أركان الإسلام الخمسة. لتكون هذه الأركان الخمسة بمثابة جهازنا المناعي النفسي الذي يضمن لنا الصحة النفسية بتعزيز التقوى فينا.
لذا تأتي الآيات التي تليها لتصف الآفات النفسية والأمراض التي تصيب هذا الجهاز المناعي. فنجد من خلالها أول إشارة في القرآن إلى ماهية التركيبة النفسية المعنية بهذه الجهود.
تتحدث الآيات ٦ إلى ١٦ من سورة البقرة عن أثر الخلل في علاقتنا مع الله وتقواه على القلب. ويحدثنا الله عز وجل عن نوعين من البشر: ذووي القلوب المختومة وذوي القلوب المريضة. وهاتان الصفتان تشيران إلى مشكلتين نفسيتين في التركيبة النفسية أو دفاعين نفسيين: وهما القدرة المطلقة، والإنكار.
يضرب لنا الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين في باب عجائب القلب، مثلا لما يصيب القلب فيقول:
“أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض احتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم وقد يكون أغزر وأكثر. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر يعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.”
هنا تتبين لنا الإشكالية النفسية للكفر وهي حجب القلب عن الله وهو حبل حياته ومنبع العلم وأصل الخير الذي تتغذى به الروح. فالكفر في معجم مقاييس اللغة وَالْكُفْرُ: ضِدُّ الْإِيمَانِ، سُمِّيَ لِأَنَّهُ تَغْطِيَةُ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ: جُحُودُهَا وَسَتْرُهَا. لذلك يتوضح معنى الختم على القلوب أن الكافر حين يتخذ هذا الساتر بينه وبين تقوى الله يؤدى إلى ختم قلبه، وقتل البعد الروحي فيه. وحين يحدث ذلك تترسخ أولى العلل في نفس المرء بأن يظن أنه هو صاحب القدرة المطلقة. وهذا ما تشير إليه الآيات ٦ و٧
٦. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٧. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٨. وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٩. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
١٠. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١١. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١٢. ألا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
يتبع…
رابط الخاطرتين باللغة الانكليزية
Day 3
Day 4
الخاطرة التالية
Leave a reply to Lina Chamsi-Pasha Cancel reply