قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن- (٥/٦)

الخاطرة ٥

يتحدث علم التحليل النفسي عن الدفاعات النفسية التي تشكل جزءا من التركيبة النفسية للإنسان. بينما يتحدث القرآن عن أمراض القلب. فهل يشيران إلى ظاهرة واحدة تحت مسميات مختلفة؟

ربما كان الأمر كذلك من حيث الأعراض ولكن العلة الأساسية تختلف. ففي القرآن تصريح واضح أن أساس الصحة النفسية علاقة الإنسان بربه.

وكما ذكرت في الخاطرة السابقة، يستقي القلب من سيل من المعلومات الخارجية تمده بها الحواس الخمس كما يحتوي على قدرة كامنة تدله على الخير. فإن لم تعرض المعلومات الخارجية على الفطرة الداخلية السليمة يجرفنا السيل الدنيوي.

ومن الآفات التي تنجم عن الاعتداد بمحصلة الحواس الخمس والعقل دون القلب تفشي الكبر بين الناس إذا لا رادع للمرء إلا عقله وهواه. وهذا الكبر الذي يفسد القلب يصيبه بالعمى، فيتجاهل المرء حقائق جلية من أجل مكاسب دنيوية. وهذا ما تشير إليه الآيات ٨ إلى ١٦ وهي آيات تنطبق على كل زمان وكل مكان لم تتحقق فيه المساواة والعدل بين الناس.

٦- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ

٧- خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

٨- وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ

٩- يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ

١٠- فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

١١- وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ

١٢- أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ

١٣- وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ

١٤- وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ

١٥- اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

١٦- أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ

بينما نجد أن الآيات ١٧ إلى ٢٨ من سورة البقرة تتطرق إلى هذا العمى أو التجاهل الذي يصيب القلب. إذ يدرك المرء حقيقة ثم يختار إنكارها. ثم تعود الآيات لتؤكد أن تقوى الله والتفكر في آياته هي علاج هذا الداء.

١٧- مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ

١٨- صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ

١٩- أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ

٢٠- يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

٢١- يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

٢٢- الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

٢٣- وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ

٢٤- فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

٢٥- وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

٢٦- إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ

٢٧- الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

٢٨- كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

٢٩- هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

فنجد أن الله عز وجل في استجابته لطلب الهداية الذي تقدمنا به، وضع لنا منهجا إنسانيا ونفسيا لأن فساد القلب يؤدي إلى فساد النفس وفساد النفس يؤدي إلى فساد التعاملات وفساد التعاملات يؤدي إلى فساد المجتمعات.

لذلك بدأ الله سبحانه وتعالى بأمراض القلب التي تحول دون تلقي الهداية وكيفية علاجها بلزوم تقواه.

الخاطرة # ٦

“مصطلح

internal object”

أو “كائن داخلي”

يعبر عن تصور نفسي وعاطفي داخلي لكائن حقيقي تم اجتيافه (introjected )

داخل النفس (كتصور الطفل النفسي لأمه مثلاً الذي يعكس عواطفه وتفاعلاته النفسية عند تفكيره فيها، وهذه الصورة تختلف من فرد لآخر وقد لا تمثل الأم نفسها وإنما طريقة فهم الطفل لها.) لذلك فإن شخصية الكائن الداخلي تتلون و تتشكل بالإسقاطات النابعة من الصفات النفسية للذات التي تجتاف هذا الكائن. وتستمر هذه العلاقة المعقدة طيلة الحياة بين عالم الشخصيات الحقيقية والكائنات المجتافة والعالم الخارجي (والذي له أيضاً صورة ذهنية) من خلال دائرة متكررة من الإسقاط والاجتياف (projection/introjection-) وهما عمليتان يقوم بهما الجهاز النفسي دون وعي المرء بهما، في الأولى يسقط ما بنفسه من صعوبات نفسية على الآخر وفي الثانية يجتاف من الآخر تركيبات نفسية بحيث تتمثل كجزء من كيانه، و تصبح جزء من هويته النفسية).

هذا التعريف الموجود على موقع

Melanie Klein Trust


مهم لمعرفة العملية النفسية التي يتم وصفها بمراحل تطورها في الآيات التي قرأناها والتي تمثل مقدمة للآيات ٣٠ إلى ٣٩.

٣٠- وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

٣١- وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ

٣٢- قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

٣٣- قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ

٣٤- وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

٣٥- وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

٣٦- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ

٣٧- فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

٣٨- قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

٣٩- وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

في سورة الفاتحة يقوم الإنسان باجتياف كائن كامل يمكنه الاعتماد عليه والاستسلام له [فاجتياف فكرة الله ككينونة كاملة مستقلة عنا كبشر مختلفة عنا تمام الاختلاف، أصل الوجود، لا احتياجات له، لا بداية ولا نهاية له، سبحانه، ليس كمثله شيء، هو التكليف الذي كلفنا بها.] خلافا للكائنات الداخلية الإنسانية فإن هذا الاجتياف للكينونة الإلاهية هو اجتياف قلبي لأننا لا ندركه بالحواس الخمس.

وقد تكون هذه نقطة اختلاف بين المنظورين الإسلامي والغربي للتركيبة النفسية. إذ يبدو لي أن الإسلام يقر تركيبة نفسية أساسها القلب بينما الغرب يعتمد تركيبة نفسية أساسها العقل. وربما تتوضح هذه الفكرة لاحقا عبر الخواطر التالية.

وأهمية فهم هذه النقطة وهذه العملية النفسية أساسي لنفهم الإسقاطات التي يقوم بها الإنسان تجاه ربه عندما يرفض الدخول في سلمه والاستسلام له. ويمكن اعتبار الآيات ٢٥ إلى ٢٩ مقدمة تشرح هذه العملية النفسية التي سترمز لها قصة خلق آدم عليه السلام التي تذكرنا بالله الواحد القهار الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفء أحد. وان استخدمنا هنا عبارة كائن داخلي لكيفية اجتياف فكرة الله فإنما هو تقريب ذهني ولكن الله منزه عن أن يكون كائنا فهو أصل الكون.

الخاطرة التالية

الخاطرة السابقة

الخاطرة ٥ بالانكليزية

Ramadan reflections, psychoanalytic perspectives

الخاطرة ٦ بالانكليزية

Ramadan reflections, psychoanalytic perspectives

2 responses to “قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن- (٥/٦)”

  1. قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (٣-٤) | Psychobabel, Islamic insight Avatar
    قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (٣-٤) | Psychobabel, Islamic insight

    […] قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن- (٥/٦) […]

    Like

  2. قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (٧/٨) | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding Avatar
    قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (٧/٨) | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding

    […] قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن- (٥/٦) […]

    Like

Leave a reply to قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (٣-٤) | Psychobabel, Islamic insight Cancel reply