قراءة تحليلية لمبادئ الصحة النفسية في القرآن (١٥)

الخاطرة ١٥

ملخص لما سبق

لعلي أتوقف هنا لأخلص الأفكار التي طرحتها حتى الآن في محاولتي لرسم خارطة لأسس العلاج النفسي التي وضعها القرآن. وإن كان ما أطرحه لا يتاخم التخوم العميقة للآيات لكنه يسلط الضوء على رؤوس أقلام تحتمل التمحيص والتوسيع.

قلت إن نقطة البداية هي سورة الفاتحة التي يتم فيها إفصاح الطالب عن مطلوبه: والطالب هنا هو الإنسان الذي أدرك ضعفه وافتقاره إلى ربه والمجيب هو الرحمن الرحيم.

فيلقى الطلب القبول ويعد الله عباده أن يمدهم بالهداية والحماية. وهذا التعاقد بين الطرفين قائم على ثلاثة محاور:

محور عمودي؛ يمثل العلاقة مع الله التي تبدأ بقبول ربوبيته واجتياف هذا المعنى

محور ذاتي: يعبر عن تجربة الفرد الإيمانية التي تغذيها أعمدة الدين من شهادة وصلاة وصيام وحج وزكاة وتقوى الله والإيمان بالآخرة

محور أفقي يمثل تطبيق هذا الإدراك بربوبية الله وعبوديتها له من خلال تعاملنا مع البشر.

وفي ذلك إشارة إلى ثنائية الخالق والمخلوق وضرورة إدراك مبدأ المغايرة والاختلاف وعدم إمكانية الاتحاد مع الذات الإلهية.

وهذا الإدراك الذي يفتح الباب لتجربة علائقية يولد أيضا الشعور بالقلق. القلق بدوره يؤدي إلى تشكل دفاعات نفسية كالنرجسية والعظمة والتفكير المستقطب.

فيكون السبيل إلى الوصول إلى ما تسميه كلاين بالوضعية الاكتئابية مرتبطا بالإنابة المستمرة من خلال التقوى والتوبة.

وهذه الأفكار تذكرني بما جاء في سورة المعارج

١٩- إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا

٢٠- إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا

٢١- وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا

٢٢- إِلاَّ الْمُصَلِّينَ

٢٣- الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ

٢٤- وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ

٢٥- لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

٢٦- وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ

٢٧- وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ

٢٨- إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ

٢٩- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ

٣٠- إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ

٣١- فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ

٣٢- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

٣٣- وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ

٣٥- وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ

٣٦- أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ

حيث نجد في هذه الآيات تصريحا واضحا بما فيه شفاء لهذا القلق الوجودي الذي يعتري الإنسان. فيتحقق ذلك من خلال تقوى الله والإحسان لعباده. فإن فهمنا ذلك أدركنا لماذا الصلاة التي تذكرنا من خلال الفاتحة بعلاقتنا بالله هي علاج للقلق، بينما الإحسان لخلق الله علاج للاكتئاب.

أي أننا جميعا نخوض تجربة سيدنا آدم في الخلق من خلال الولادة التي تمثل انفصالا من بعد شمول وقلقا من بعد نعيم لتبدأ رحلة تكون الشخصية وعودتها إلى خالقها من خلال المعرفة والوعي لا من خلال الإجبار والقهر.

وتكمن أهمية العودة إلى الله في طبيعتنا البشرية التي جبلنا عليها أن نتوق إلى المعرفة التي تقودنا إلى سر الوجود والتي أساسها نقصنا وكماله. فنحن لا نختار آباءنا أو بيئتنا ولا يد لنا فيما يخضعوننا له من مؤثرات إيجابية أو سلبية، لكننا نصل إلى نقطة معينة من الفهم والإدراك لنخرج من عبودية البشر والمحيط إلى رحاب الله.

فعندما ننظر إلى العالم الخارجي من خلال العالم الداخلي الناتج عن أفعال البشر، يقدم لنا المنظور الإلهي بعدا ثالثا يوسع علينا أفقنا ويصحح نظرتنا ليتغير الشعور الداخلي النفسي وتستقيم النظرة الخارجية وفهمنا للحياة.

لذلك فالارتباط بالله عز وجل يعزز جهازنا المناعي النفسي فيزيل الشوائب التي تشوه سلوكياتنا ودفاعاتنا النفسية ويجعلنا أكثر رضا وطمأنينة.

النسخة الانكليزية English version

الخاطرة التالية

الخاطرة السابقة

One response to “قراءة تحليلية لمبادئ الصحة النفسية في القرآن (١٥)”

  1. قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (١٦) | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding Avatar
    قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (١٦) | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding

    […] Previous Postقراءة تحليلية لمبادئ الصحة النفسية في القرآن&nbsp… […]

    Like

Leave a comment