قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (١٩)

عن التغيير والتعلم التجريبي

حاولت من خلال هذه القراءة التحليلية أن استشف بنود العقد العلاجي في القرآن. فكان من الملفت أن آيات سورة البقرة تعنى بهذه بالبنود وتضع أسس هذه العلاقة وشروطها والتحديات التي سنواجهها من حيث المخاوف والدفاعات النفسية. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على رب عليم حكيم يريد لعباده الخير ويريد أن يهديهم ويصلح بالهم ليعم هذا الإصلاح الفرد والمجتمع والعلاقات البينية.

وبعد تعداد التحديات على مستوى الفرد والفرد ضمن المجموعة تأتي الآيات التالية في سورة البقرة لتنظر إلى فعالية المسلمين كمؤسسة اجتماعية (انظر الخاطرة ١١)

حيث يخاطب الله عز وجل هذا المجتمع في الآية ١٤٣ من سورة البقرة مبينا دور هذا المجتمع في بيئته العامة كمجتمع عادل ووسطي يكون شهيدا بالحق على أترابه.

۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (142) وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (143) قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ (144) وَلَئِنۡ أَتَيۡتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٖ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٖ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعٖ قِبۡلَةَ بَعۡضٖۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (145) ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنۡهُمۡ لَيَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (146) ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ (147) وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (148) وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (149) وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (150) كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ (151) فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ (152) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ (154) وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ (155) ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ (156) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ (157) ۞

ويرسخ الله هذه الصفة بقرنها باختبار رمزي. فهناك تغيير وهو تغيير القبلة لتكون قبلة المؤسسة الجديدة هي مكة المكرمة وهناك انفصال وهو الانفصال عن اليهود والنصارى باتخاذ قبلة مختلفة. وهو التحدي الأول لعقلية المجموعة لاختبار إيمان المجموعة.

الأمر بمخالفة القبلة تدريب على مخالفة الأغلبية خصوصا أن العرب في تلك الفترة لم يعرفوا رسولا قبل محمد عليه الصلاة والسلام. لذلك فإن تغيير قبل الموحدين اعتبر امتحانا هاما.

ويشير الله عز وجل إلى أن ما يرسخ الإيمان هو الثبات عند المحن. والمحن بمثابة أجراس تقرع لتوقظ النفس من سهو العيش وترسخ العادات التي تجعلنا نتصرف بشكل آلي.

وتحضرني هنا آية في سورة الأنفال

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)

وقد علق عالم الأعصاب مارك سولمز على العملية العقلية التي تحوّل تجاربنا إلى ردود فعل تلقائية على أنها أساس قدرتنا على البقاء فهي تقلص مدة رد الفعل في حال تعرضنا لخطر. مما يجعلنا أمام سؤال محير في رأيه لأن الوعي الفكري ليس ضرورة لبقائنا كنوع كي يبدّيها الاصطفاء الطبيعي. فلماذا نحن كائنات واعية؟ وقد يكون في الآية المذكورة أعلاه في سورة الأنفال رد على هذا التساؤل أننا إن لم نمتلك هذه الملكة في الوعي والتفكر لما عرفنا الله ولما استجبنا لندائه لنخرج من حياة سائر الثدييات ونرتقي إلى حياة إنسانية أرقى.

أي أن الإنابة إلى الله هي جهد مستمر في اليقظة القلبية والوعي. وتبدأ بتكاليف عملية مهمتها إيقاظ القلب والعقل من غفلتهما. هنا يتضح لنا كيف تقوم أركان الإسلام الخمسة بهذه الوظيفة ولماذا سميت بأركانه لأنها أسس إيقاظ الغافل عن الله وتوجهنا إلى القبلة إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وهي توجه قلبي يؤكده توجه جسدي نحو الكعبة وهي بيت الله الحرام. والصبر على تكاليف تعبير عن ثقتنا بالله عز وجل.

ثم تأتي الصلوات الخمس لتكون خمس منبهات في خضم اليوم الحافل بأعباء الدنيا لتذكرنا بربطها وعرضها على أهداف الآخرة. لذلك فاليقظة والوعي لا يتحققان إلا من خلال نوع من التوتر أو الصراع أو الجذب والرد.

وهذا التوتر يولد القلق والقلق دواؤه الإنابة إلى الله والتوكل عليه. فتدور بذلك عجلة العمل الصحي للمؤسسة (أنظر الخاطرة ١١)

فكيف ينطبق ذلك على بقية الأركان؟

يتبع…

الخاطرة السابقة

English version

https://psychobableblog.wordpress.com/2023/04/10/ramadan-reflections-psychoanalytic-perspectives-12/

One response to “قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (١٩)”

  1. قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding Avatar
    قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding

    […] قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن (١٩) […]

    Like

Leave a reply to قراءة تحليلية لمبادىء الصحة النفسية في القرآن | Islamic Perspectives, Psychoanalytic Understanding Cancel reply